لم يجل بخلدي يوما،ولا حتى في أحلام يقظتي أو منامي،أن أحظى يوما بتلك النظرة،أو أن أملي نظري برؤية معشوقتي.لطالما أقسمت بها وبربها،غالبا اكون صادقا،ولم يحدث أن اقسمت بها كاذبا،لا لأنني لا أكذب،لكن لأني استحيي أن اقسم بكل ذلك الجمال وذلك الطول الذي يلامس السحاب وذلك اللون الجذاب الذي أخذ علي كل جوارحي،وأكون كاذبا.هي معشوقتي ،ومهوى قداستي،يشرئب عنقي كل يوم في اتجاهها, محاولا،مجرد محاولة،رؤيتها.فتبوء محاولاتي كلها،كل مرة،بالفشل،وتراني كل مرة أتخيلني واقفا ببابها, اراها بعين .القلب وإن غابت عن ,البصر
و على حين غفلة من الزمن ,هتف هاتف,بل لعله مؤذن ,وللحظات لم تكن بالقليلة,اعتقدتني في وصلة من وصلات أحلام يقظتي ,فرأيتني وأنا أعد العدة,اجمع العتاد بعد أن سمعت المنادي,فوجب تلبيته,أطوي الأرض ولعلها السماء شرقا وغربا حتى وقفت بباها بوابا أفترش أرضها وأعتلي ببصري هامتها التي طاولت السماء علوا وعلوا ,مليحِة في خمار أسود, لها عشاق كثر يضربون أكباد الإبل هياما بها واشتياقا لها ,في كل لحظة أنتظر أن أصحو من منام على تلك الرؤيا الجميلة و تلك الهامة العالية التي طاولت عنان السماء,لا أعرف حقيقية كيف تستطيع أن تسمع كل هؤلاء المتغزلين فيها أو المتمسحين بذلك الخمار الاسود الذي زادها تشريفا و تعظيما,ولا كيف يتغزلون بها كلهم في وقت واحد دون أن يغار أحد من احد
من رأها عشقها,ومن لم يرها تمنى رؤيتها.لا أعلم أحدا على ظهر هذا الكوكب جمع كل هذه الصفات,حسن وبهاء وجلال وجمال وسعة صدر ,ترى العشاق يتساقطون تحت أقدامها خشعا وبكيا ,يطوفون حولها وكل منهم يتمنى لمسها ,يقاتل كأنه في ساحة وغى,حتى يصل الى معشوقته يرمي نفسه عند أقدامها ومن كان مثلي هزيل الجسم ضعيف البنية ,حياها من بعيد والدموع تسيل انهار على خديه .
في كل لحظة من تلك اللحظات التي لا توصف ,أخشى ما كنت أخشاه ,أن أكون في حلم وردي ,فقد اختلطت عندي أحلام المنام بأحلام اليقظة بالواقع ,والى الآن وحتى الآن لم أستطع أن أميز بين كل ذلك,هل هو حقيقة أم منام.
وما بين مد وجزر,ودفع وجذب ,تراقصت أقدامي الحافية في محراب محبوبتي بوابا لبابها أرجو أن انال منها نظرة ,نظرة ولو خاطفة,خاصة وقد شارفت أيامي,أيامي بقربها على الانتهاء ولم يعد في العمر متسع,وأخشى ما كنت أخشاه وإلى الآن لا زال ذاك الخوف يلازمني,أن تكون تلك النظرة إليها الأولى والأخيرة ,وكان خروجي من جوارها أشد ألما على نفسي من فقد حبيب أو عزيز,أحسست وأنا أغادر كأن أوصالي تتمزق,وكأنما تركت قلبي وعقلي هناك عند أقدامها,وكلما ابتعدت زاد الألم,وتعمدت الخروج متسللا تحت جنح الظلام,كما يتسلل الهارب من جريمة,وأي جريمة أعظم وأي ذنب أكبر من ترك الحبيبة والمعشوقة والمؤنسة,والله إنها لأحب إلي من نفسي,ولولا أنهم أخرجوني من قربها ما خرجت.إن لها أفضالا على كل زائر وكل عشيق يغسل عند أقدامها قلبه ونفسه وعقله,فيعود كيوم ولدته أمه,يمني النفس,وكذلك فعلت وأفعل بعودة قريبة,يتغير اسمه بعد زيارتها,وعلى شدة سوادها يكون بياض وجه زائرها وقلبه,هي المحبوبة الوحيدة التي لا يغار محبوها,على كثرتهم,بعضهم من بعض بعكس غيرتها على كل واحد منهم,فهي تتربع قلوبهم جميعا وتطرد كل شريك وكل قريب وكل حبيب لتجلس على عرش مملكة القلوب.فعسى أكون زرتها فعلا,وعسى أن أكرر الزيارة,زيارة حسبتها حتى وقت قريب…رحلة مستحيلة…
في الحانة
تعود كل يوم ان يجلس هناك ساعة او شبه ساعة, المكان متسع والوجوه مختلف طالعها ,ما بين حزين وكئيب ويائس وبائس لا مكان للسعادة عند كل هؤلاء لا وجود للراحة لديهم ,لو اطلعت على قلوبهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .ربما كانت رائحة المكان اخر ما يهمه او يجود بخلده ,ربما لانه ألفها لم تعد تؤثر فيه,كما لم يعد يؤثر فيه ما يقدمه هنا من الثابت ولا من المتحرك ولا من الاصلي ولا من المصنع , لقد اصبح الجلوس هنا غاية في حد ذاته لا يهم بعدها ما سيقدم ربما بحكم العادة,وربما بحكم الالفة بينه وبين اصحاب المكان لهذا كان يمني النفس ويقفز على التعبير الصحيح, ان جلوسه هناك لم يكن بحكم الالفة ولا بحكم العادة, ولا حتى الاسترجاع ذكرياته معها, وانما كان بحكم الادمان .{بعد ان انهي هذا التكوين ساتخرج اطارا ساميا في الدولة براتب مجز, وحوافز وعلاوات ,استطيع ان اتقدم لخطبتك ,ستكونين زوجتي ,اوشكت ان انتهي ,سيكون عرسا لا كالاعراس …}كان هذا كلامه كل ما التقى بها, طبيعة عمله كرجل سلطة, جعلت منه رجلا جافا, لا يتقن لغه الغزل التي تحبها جل النساء .ومع ذلك كانت نصيرة تعشقه ,او هكذا بدت له, عندما تلتقي به كانت عيناها تشعان لمعانا وصفاءا ينم عن صفاء روحها وطهارة قلبها .كان لباسها محتشما, ولو انها كانت مكشوفة الراس… {عندما اتزوجها سوف الزمها ان تضع النقاب على راسها}, كلما راى كمال محبوبته الا وجال هذا الخاطر بخلده خاصة اذا راى ذلك الليل البهيم الموضوع على راسها وخصلاته تتقاذفها هبات النسيم, كما لو كانت.. لم يجد وصفا مناسبا يصف به جمال شعرها خاصة, وجسدها كله عامة,{ رحم الله ابي لو انه وجهني توجيها ادبيا لاستطعت ان اقول شعرا في محبوبتي }بينما هو قادم تجاه بيتها, لمحها تطل من شرفة المنزل, راته فاشارت اليه وعلى غير العاد ة لوحت اليه بيدها ,كانت اشار ة غريبة ,اقرب الى التوديع منها الى الاستقبال. لقد تراكمت الديون على الوالد,وكثرت الشيكات مستحقة الدفع لصالح عبد الجبار. وهو امام خيارين, وبالاحرى انعدام خيارات ,اما ان يزوجه ابنته المخطوبة اصلا لكمال ,واما ان يتشرف بارتداء الاساور الرسمية, لعجزه عن الاداء فيزج به في السجن, اذ ان املاكه كلها, حتى في حاله بيعها ,لن تكفي لسداد ما بذمته من ديون لعبد الجبار. كانت نصيرة كبش فداء والدها من السجن, وهو في اواخر ايامه ,وهي في مقتبل عمرها .نزعت خاتم الخطوبة ورمته في وجه الحبيب, والقلب يعتصر الما ,طردته ولم يرها منذ اذ.صب كمال جام غضبه على من كان تحت امرته من جند ومواطنين, وهو الان مسؤول عسكري كبير, يعذب من يشاء ويعتقل من يشاء ,فلا حسيب ولا رقيب .يقضي بياض نهاره في مكتبه, وسواد ليله في هذا المكان الذي دخله اول مرة, يوم خرج مطرودا من بيت محبوبته ,املا ان يجد بعض السلوى او العزاء. ان الداخل الى هنا مفقود …لقد ادمن معاقرة الخمر, يشرب افخر الانواع واكثرها تاثيرا دون جدوى .حاول كثيرا ان يحفر بما له من سلطة ونفود حفرة لصاحبه زوج حبيبته ,لكن سلطان المال اقوى من سلطان السلطان .ووجد كمال نفسه منقولا تاديبيا الى الحدود, يقضي ما تبقى له من {سربيس} بين العقارب والافاعي ونيران العدو.ومع ذلك لم يستطع ان ينساها. وقد مضت السنون,احيل على التقاعد فعاد الى مدينته والى حالته .جال كل ذلك الماضي الاليم بخلد كمال وهو يحتسي كاسا من الفودكا الفاخرة, واذا به وقد رفع راسه, يفاجأ, راى بقايا انسان لم يعرف منه الا صوته{ لله يا محسنون عفا الله عنكم} انه انه انه عبد الجبار ولا شك.{ ايه يا عبد الجبار؟} قالها كمال بشماتة واضحة{ ما حال الدنيا معك واين هي نصيرة؟} {هل تعرفني يا سيدي وهل تعرف المرحومة}. سقطت الكأس من يد الكمال انخلع قلبه لهول ما سمع .{اوماتت نصيرة؟}{ من أنت أولا ؟}{أنا حبيبها الذي نزعتها منه وارسلته الى الفيافي}. أمسك كمال بتلابيب عبد الجبار لحظة,ثم تمالك نفسه ,فاطلقه .{وكيف ماتت؟}.ازدهرت تجارة عبد الجبار بعد زواجه بنصيرة, فدخل عالم القمار والمخدرات ,فازدادت لفترة لا يعرف مداها تجارته ازدهارا قبل ان تهوي على راسه ,فخسر كل شيء وا ضطرت نصيرة ان تبيع كل ما ور ثته عن أبيها ,الذي مات بسكتة دماغية مباشرة,بعد عقد قرانها على عبد الجبار لتسديد ديون زوجها دون جدوى. اصيبت نصيرة بالسرطان بسبب افتقار زوجها ,لم تجد ثمن الدواء ,ويوما بعد يوم وساعة تلو ساعة,كانت تذوب كشمعة مشتعلة, الى ان خبت وماتت.لم يجد زوجها حتى ثمن الكفن .اختلطت الاحاسيس في صدر كمال ,بين حزنه على فقد محبوبته وشماته بمن سلبها منه.سكت هنيهة ثم اطلق ضحكة هستيرية كانت اخر كلامه من الدنيا و سقط على ارض الحانة ميتا كأن لم يكن قط…